بقلم: الدكتورة نجوى السعيد
في ظل التحولات المتسارعة في مشهد القوى العالمية، جاءت زيارة سمو الشيخ طحنون بن زايد آل نهيان إلى العاصمة الأميركية واشنطن، خلال الفترة من 18 إلى 24 مارس 2025، لتجسد أكثر من مجرد مناسبة دبلوماسية؛ فقد شكلت إعلانًا مقصودًا لإعادة تموضع دولة الإمارات عند تقاطع التحول التكنولوجي وإعادة الاصطفاف الجيوسياسي.
سمو الشيخ طحنون، الذي يشغل منصب مستشار الأمن الوطني ورئيس مجلس إدارة شركة MGX، لم يكن مجرد زائر رسمي، بل مبعوثًا استراتيجيًا يسعى إلى تشكيل نموذج جديد من التحالفات، قائم على الذكاء الاصطناعي.
وفي وقت تخوض فيه الولايات المتحدة والصين سباقًا محتدمًا على الهيمنة في مجال الذكاء الاصطناعي، تبنت الإمارات استراتيجية استثمارية طموحة في هذا القطاع، مما جعلها شريكًا محوريًا في النظام العالمي الجديد القائم على التكنولوجيا.
أكد سمو الشيخ طحنون هذا التوجه بقوله: “الذكاء الاصطناعي ليس قطاعًا مستقبليًا، بل هو البنية الأساسية لمصيرنا المشترك”، وهو ما يعكس إدراك الإمارات بأن القيادة الرقمية أصبحت معيار الصدارة الوطنية والقدرة على الصمود.
خلال زيارته، عقد سمو الشيخ طحنون اجتماعات رفيعة المستوى مع أبرز شخصيات منظومة الابتكار الأميركية، من أمثال إيلون ماسك، وجيف بيزوس، وساتيا ناديلا، وجينسن هوانغ، في إشارة واضحة إلى نية الإمارات الاندماج العميق في سلسلة التوريد ذات القيمة الأميركية في مجال الذكاء الاصطناعي. وقد تُوجت هذه اللقاءات بالإعلان عن إطار استثماري إماراتي-أميركي بقيمة 1.4 تريليون دولار، وهو ليس التزامًا ماليًا فحسب، بل إشارة سياسية بأن الإمارات عازمة على جعل استراتيجيتها التنموية جزءًا من مسار الابتكار الأميركي.
وفي ظل موجة الحماية الاقتصادية وعودة السياسات الجمركية المتشددة، يأتي هذا الانخراط القائم على الذكاء الاصطناعي ليحقق هدفين في آن واحد: تعظيم نفوذ الإمارات الإقليمي والدولي، وفي الوقت ذاته حمايتها من الهشاشة الاقتصادية التي تصيب شركاء تجاريين آخرين. من خلال مساهمتها في البنية التحتية الاستراتيجية للذكاء الاصطناعي الأميركي وتعزيزها، لم تعد الإمارات تُرى كمجرد شريك تجاري عادي، بل أصبحت شريكة محورية في هيكل الأمن القومي والاقتصادي الأميركي.
وقد عبّر نائب الرئيس الأميركي، جي دي فانس، عن هذه الحقيقة الجديدة بقوله: “تمتلك الولايات المتحدة كل مكونات منظومة الذكاء الاصطناعي، من أشباه الموصلات إلى الخوارزميات المتقدمة. وشركاء مثل الإمارات يساعدون في إبقاء هذا النظام مرنًا، لا مركزيًا، وقادرًا على الصمود”.
في هذا السياق، فإن فرض أي رسوم جمركية على الإمارات يُعد تقويضًا لمنظومة الصمود التي تسعى واشنطن نفسها إلى تحصينها.
ويأتي هذا التحول في سياق تاريخي مهم، إذ لطالما ارتبط نفوذ الخليج بالنفط والثروات السيادية، إلا أن الإمارات تعيد تعريف نفوذها من خلال البنية التحتية الرقمية، والهندسة السحابية، والسيادة الرقمية. والشراكة مع شركتي مايكروسوفت وCore42 تعكس هذا التحول بوضوح، إذ تعمل على تثبيت الإمارات كلاعب أساسي في شبكات العولمة القادمة.
ومن خلال تقاربها مع الولايات المتحدة في ما يمكن وصفه بـ “الحرب الباردة التقنية”، تبعث الإمارات أيضًا برسالة جيوسياسية واضحة وإن كانت غير معلنة. فهي، وإن حافظت على علاقاتها الاقتصادية مع الصين، تُلمّح إلى أن أمنها الاستراتيجي طويل المدى، وحوكمة الابتكار، واتساق القيم، كلها ترتبط بالتحالف مع واشنطن. وبهذا التوازن، تتجنب الإمارات الانجرار إلى مواجهة أيديولوجية، وتبني في الوقت نفسه شبكة حماية ضد الصدمات الاقتصادية، بما فيها الرسوم الجمركية.
إن زيارة الشيخ طحنون تمثل نموذجًا جديدًا للدبلوماسية في منتصف القرن الحادي والعشرين. هي محور التحركات الدبلوماسية، بل ضمان الاستقرار طويل المدى من خلال التشابك التكنولوجي. فالرهان الإماراتي على الدبلوماسية المرتكزة على الذكاء الاصطناعي ليس مجرد استعراض للقوة الناعمة، بل هو بوليصة تأمين استراتيجية. ومن خلال تموضعها كمؤلف مشارك في مستقبل الذكاء الاصطناعي، لا تكتفي الإمارات بالتكيف مع التحولات العالمية، بل تسعى إلى صناعتها.
ومع دخول العالم عصراً جديدًا تُقاس فيه القوة لا بالموارد الطبيعية أو الأسلحة، بل بقدرة الوصول إلى السحابة الرقمية والسيادة على الخوارزميات، وحوكمة البيانات، فإن الرؤية الاستراتيجية لدولة الإمارات تشكل نموذجًا يُحتذى به لبقية دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا. فمن يدمج نفسه في جوهر التحالفات الرقمية العالمية، لن ينجو من الصدمات الاقتصادية فحسب، بل سيكون شريكًا في رسم قواعد النظام العالمي الجديد.